سورة الفتح - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفتح)


        


{إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)} [الفتح: 48/ 1- 7].
إنا فتحنا لك أيها النبي فتحا ظاهرا عظيما هو صلح الحديبية، عند جمهور الناس، وهو الصحيح، وليس فتح مكة، أي إن ما يسّر اللّه تعالى لك أيها الرسول في خروجك إلى مكة للعمرة فتح مبين تستقبله، ونزلت سورة الفتح مؤنسة للمؤمنين، لأنهم كانوا استوحشوا من ردّ قريش لهم، ومن تلك المهادنة التي هادنهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فنزلت السورة مؤنسة لهم في صدهم عن البيت الحرام، ومذهبة ما كان في قلوبهم.
ورأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه هادن عدوه ريثما يتقوى هو، وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية، حيث وضع فيه سهمه، وثاب (تفجر) الماء، حتى كفى الجيش، وتمت فيه بيعة الرضوان. وهي الفتح الأعظم، كما قال جابر بن عبد اللّه، والبراء بن عازب، وأدى ذلك إلى فتح خيبر، وامتلأت أيدي المؤمنين خيرا، ولم يفتتحها إلا أهل الحديبية، ووقعت في تلك السنة ملحمة عظيمة بين الروم وفارس، انتصر فيها الروم، فكانت من جملة الفتح على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، لظهور أهل الكتاب على المجوس، وتخضيد شوكة الكفر الوثني.
ثم عظّم اللّه تعالى أمر نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم وشرّفه بأن أنبأه بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أي لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح، والهداية إلى الصراط المستقيم، والنصر العزيز المنيع الذي لا ذل معه، أو الفريد الذي لا شبيه له.
ولكي يتم اللّه إنعامه عليك بإعلاء شأن الدين، وانتشار الإسلام، وفتوح البلاد شرقا وغربا، وليرشدك إلى الطريق القويم بما يشرعه لك من الشرع العظيم، ولينصرك اللّه على أعدائك نصرا غالبا منيعا، لا يتبعه ذل. وإتمام النعمة على النبي:
هو إظهاره، وتغلبه على عدوه، والرضوان في الآخرة، والنصر العزيز: هو الذي معه غلبة العدو والظهور عليه.
أخرج أحمد والشيخان والترمذي والحاكم عن أنس قال: أنزلت على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} مرجعه من الحديبية، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: لقد أنزلت على آية أحب إلي مما على الأرض، ثم قرأها عليهم، فقالوا: هنيئا مريئا لك يا رسول اللّه، قد بيّن اللّه لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} حتى بلغ {فَوْزاً عَظِيماً}.
إن اللّه عز وجل هو الذي أوجد الطمأنينة في قلوب المؤمنين، وهم الصحابة رضي اللّه عنهم، يوم الحديبية، الذين استجابوا لله ولرسوله، ليزيدهم اللّه يقينا جديدا على يقينهم الحاصل من قبل. ويسمى هذا اليوم: رفع الروح المعنوية للجيش، وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين: هو تسكينها لتلك الهدنة مع قريش حتى اطمأنت، وعلموا أن وعد اللّه حق. فازدادوا بذلك إيمانا إلى إيمانهم الأول، وكثر تصديقهم.
وهذا دليل على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب.
ولله تعالى السلطان على جنوده في السماوات والأرض، من الملائكة والإنس والجن والشياطين، والقوى الكونية في السماء والأرض، من بحار وأنهار وزلازل وبراكين وأعاصير. وكان اللّه ولا يزال عليما بمصالح خلقه، حكيما في صنعه وتقديره وتدبيره، وهذا إشارة إلى تسكين النفوس أيضا، وأن تكون مسلمة، لأنه ينصر من شاء، متى شاء، وعلى أي صورة شاء، مما لا يدبره البشر. ومن جنده السكينة التي أنزلها في قلوب الصحابة، فثبّتت بصائرهم.
ثم عرف اللّه نبيه ما يفعل به وبالمؤمنين والكافرين، فقد دبر اللّه ما دبر، من تسليط المؤمنين على الكافرين، ليعرفوا نعمة اللّه في ذلك، ويشكروها، وليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات (بساتين) تجري الأنهار من تحت قصورها، وهم ماكثون فيها على الدوام، وليكفّر (يستر) عنهم خطاياهم ولا يظهرها، وكان إنجاز ذلك الوعد بإدخالهم الجنة وتكفير سيئاتهم عند اللّه، وفي حكمه، فوزا عظيما كبيرا، ونجاة من كل غم، وظفرا بكل مطلوب.
ولكي يعذب أهل النفاق وأهل الشرك بالهم والغم بسبب ما يشاهدونه، من انتشار الإسلام وانتصار المسلمين، وقهر المخالفين، وبما أصيبوا به من القهر والقتل والأسر في الدنيا، وبما أعد لهم من العذاب في الآخرة، ولقد أصابهم ما أرادوا بالمسلمين فعليهم دائرة هي السوء، والمراد: الهزيمة والشر، أي دائرة السوء الذي أرادوه بالمسلمين في ظلهم السيئ.
ثم أكد اللّه تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين، فلله تعالى تدبير أمر جنوده في هذا العالم كيف يشاء، كما تقدم بيانه، وكان اللّه وما يزال عليما بمصالح خلقه، حكيما في صنعه وتقديره وتدبيره.
مهام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومغزى بيعة الرضوان:
إن مهمة تكليف الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسّلام مهمة عظيمة وشاقة، وتتميز مهمة نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم بمعان أو وظائف تتفق مع كونه خاتم النبيين وإمام المرسلين، فهو الشاهد على أمته والأمم المتقدمة بتبليغ الرسالة الإلهية، وهو المبشر أهل الطاعة برحمة اللّه تعالى، والمنذر لأهل الضلال من عذاب اللّه تعالى. والغاية من رسالته التوصل إلى الإيمان الحق بالله ورسوله، وتأييد دعوته، وتنزيه (تسبيح) اللّه بوصفه بكل صفات الكمال، وتجريده عن كل صفات النقصان. ومعنى بيعته بيعة الرضوان يوم الحديبية على الموت دفاعا عنه: بيعة لله تعالى ذاته، فمن نقض بنود البيعة عاد وبال نقضه على نفسه، ومن أوفى بالعهد مع اللّه، فسيلقى الثواب العظيم. وهذا ما سجلته الآيات التالية:


{إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)} [الفتح: 48/ 8- 10].
إنا أرسلناك أيها النبي لأداء وظائف ثلاث هي: الشهادة على الناس من أمتك وغيرهم، بأعمالهم وأقوالهم بتبليغ شرع اللّه إليهم، وتبشير المؤمنين الطائعين برحمة اللّه وجنته، وإنذار الكافرين والعصاة وتخويفهم من عذاب اللّه عز وجل.
والغرض السامي من إرسالك أيها الرسول: هو أن تؤمن أمتك بالله ورسوله- والخطاب للرسول وأمته- وأن يعظموك ويفخموك، وأن يحترموك ويقدروك، وينزهوا اللّه تعالى عما لا يليق به من الشريك والولد والصاحبة، والتشبّه بالمخلوقات، وذلك على الدوام، وبخاصة في الصباح والمساء، لقوله: {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أي في الغدو والعشي. وهذه هي صلاة البردين، أي صلاة الفجر والعشاء، جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي موسى: «من صلّى البردين دخل الجنة».
والفعلان: (تعزروه وتوقروه) عند جمهور المفسرين: للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وفعل (تسبحوه) لله تعالى.
وقال بعض المتأولين: الضمائر في الأفعال الثلاثة هي كلها لله تعالى.
ثم بيّن الحق تعالى عظمة بيعة الرضوان في الحديبية مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وهي بيعة الشجرة حين أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الأهبة لقتال قريش، لما بلغه مقتل عثمان بن عفان رضي اللّه عنه، الذي أرسله لمفاوضة قريش، قبل أن ينصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من الحديبية، وكان معه ألف وأربع مائة رجل، وبايعهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد، حتى قال سلمة بن الأكوع وغيره: بايعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على الموت.
وقال ابن عمر وجابر: على ألا نفرّ.
والمبايعة مفاعلة من البيع، لأن اللّه تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، ثم صار اسم البيعة يطلق على معاقدة الخلفاء والملوك. وعلى هذا سمّت الخوارج أنفسها الشّراة، أي الذين اشتروا بزعمهم الجنة بأنفسهم.
ومعنى الآية: إن الذين يبايعونك أيها الرسول بيعة الرضوان بالحديبية: تحت الشجرة على قتال قريش، إنما يبايعون اللّه، أي يطيعونه ويعاهدونه على امتثال أوامره، وصفقتهم إنما يمضيها اللّه تعالى ويمنح الثمن، أي الثواب عليها، فمن بايع النبي في الظاهر، فقد بايع اللّه في الحقيقة والواقع.
وأكد اللّه هذا المعنى بقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أي بأنّ عقد الميثاق مع الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم كعقده مع اللّه تعالى على السواء، وأن اللّه حاضر معهم، يسمع أقوالهم ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، واللّه تعالى هو المبايع حقيقة بوساطة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، فهو السفير المعبر عن اللّه، وسفارته بين اللّه وأوليائه المؤمنين.
فمن نقض البيعة مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فإنما وبال نقضه وضرره على نفسه، لا يجاوزه إلى غيره. ومن وفى بالعهد وثبت عليه، ونفّذ ما عاهد عليه الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم في البيعة، فسيؤتيه اللّه ثوابا جزيلا، ويدخله الجنة، كما عبر اللّه تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 48/ 18].
إن هذه البيعة تعد وقفة مشرفة، وتضحية بالغة، وتصميما عاليا من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، لتحقيق أعظم الغايات، لذا كان هذا الموقف مما يغبطون عليه، وقد أكرمهم الله تعالى بهذا الرضوان الإلهي على مدى الدهر، وجعله قرآنا يتلى، وأنموذجا عظيما للأبطال والشجعان، في سجلات اللقاءات والإعداد للمعارك الفاصلة الخالدة.
أوضاع المتخلفين عن الحديبية:
تخلف عن الذهاب مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في عمرته يوم الحديبية قوم من الأعراب: هم جهينة ومزينة ومن كان حول المدينة من القبائل وهم غفار وأشجع والدّليل، رأوا أنه يستقبل عدوا عظيما من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة وهم الأحابيش، ولم يكن الإيمان قد تمكن من قلوبهم، وقالوا: لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة، ففضحهم الله تعالى في الآيات الآتية، وأعلم محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم باعتذارهم في الظاهر قبل أن يصل إليهم، وبطلبهم المشاركة في وقعة خيبر وغنائمها، ودعوتهم إلى قتال قوم أولي بأس شديد. قال الله تعالى:


{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)} [الفتح: 48/ 11- 17].
هذه أخبار أنبّأ الله تعالى بها نبيه قبل وقوعها، أولها اعتذار المتخلفين عن الذهاب معه في عمرته يوم الحديبية، فإنهم سيقولون له بعد عودته: شغلتنا الأموال والأهلون، فاستغفر لنا، لكنهم لم يصدقوا في هذا الاعتذار، وإنما قالوا ذلك بألسنتهم في الظاهر، وبما لا يعبر عن حقيقة نواياهم وقلوبهم، في أن محمدا وصحبه سينهزمون أمام قريش وثقيف والقبائل المجاورة لمكة وهم الأحابيش، فقل أيها النبي لهم: من يحمي أموالكم وأهليكم إن أراد الله بكم سوءا، أو أراد بكم نفعا، ثم رد الله عليهم بقوله: {بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً}.
ثم فسر لهم علة تخلفهم بقوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ} أي لم يكن تخلفكم تخلف معذور، بل ظننتم أنه لن يعود الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنون معه إلى أهليهم وأوطانهم أبدا، وأن العدو سيقتلهم، وزين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم، فقبلتموه، وظننتم أن الله تعالى لن ينصر رسوله، وكنتم قوما هلكى أو هالكين عند الله تعالى، بسبب فساد هذا الاعتقاد.
ثم أخبر الله تعالى عن عقاب أهل الكفر: وهو أن من لم يصدّق بالله تعالى ورسوله، ولم يخلص عمله لربه، كما صنع هؤلاء المتخلفون عن الحديبية، فجزاؤهم ما أعده الله لهم من عذاب السعير المتلظية بهم.
وقدرة الله شاملة، فهو مالك السماوات والأرض، وسلطانه مطلق فيهما، يتصرف فيهما كيف يشاء، يغفر لمن شاء مغفرة ذنوبه، ويعذب من أراد تعذيبه على كفره وعصيانه، وكان الله وما يزال غفورا لذنوب عباده التائبين رحيما يرحم جميع خلقه.
وسيقول لك أيها النبي هؤلاء الأعراب المتخلفون عنك في عمرة الحديبية: إذا سرتم إلى خيبر، وظفرتم بمغانمها: اتركونا نتبعكم في السير، ونشهد معكم الموقعة، وهذا دليل آخر على كذبهم في اعتذارهم بعد كشف أمرهم: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} إنهم يريدون في شأن غنائم خيبر تبديل حكم الله ووعده لأهل الحديبية، بتخصيصهم بمغانم خيبر، فقد أمر الله رسوله ألا يسير معه إلى خيبر أحد من غير أهل الحديبية، ووعدهم بمغانمها وحدهم، فقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} معناه: أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر.
فقل أيها النبي لهم: لن تسيروا معنا إلى خيبر، وقد قال الله ذلك سابقا: وهو أن غنائم خيبر لمن شهد الحديبية خاصة، لا نصيب فيها لغيرهم. وحينئذ سيقول المخلفون عند سماع هذا القول: بل إنكم تحسدوننا في المشاركة في الغنيمة، فلذا لم تأذنوا لنا في الخروج، فرد الله عليهم: ليس الأمر أمر حسد كما تزعمون، بل إنكم لا تفهمون إلا فهما قليلا، أي لا تفهمون شيئا من أحكام الدين: وهو جعل القتال من أجل الله تعالى، والإخلاص فيه.
ومع ذلك، ميدان القتال متسع، فإنكم إن أردتم صدق الانتماء للمسلمين، فإنكم ستطالبون إلى قتال قوم أولي شدة وبأس، تخيرونهم بين أحد أمرين: إما القتال وإما الإسلام، لا ثالث لهما. وهذا يشمل مشركي العرب والمرتدين. قال عكرمة وابن جبير وقتادة: هم هوازن ومن حارب رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم في حنين ثم وعد الله وأوعد، وهو إن تطيعوا فيما تدعون إليه من الجهاد، يؤجركم الله أجرا حسنا، وإن أعرضتم كما فعلتم زمن الحديبية يعذبكم الله.
ثم استثنى الله تعالى أصحاب الأعذار من التكليف بفرضية الجهاد: ليس هناك حرج على هؤلاء المعذورين بهذه الأعذار وهي العمى، والعرج المستمر، والمرض المزمن، أو الطارئ في وقت طروئه، لعدم استطاعتهم. ثم رغب الله في الجهاد وطاعة الله ورسوله، فمن يطع الله ورسوله، يدخله جنات تجري الأنهار من تحت قصورها، ومن يستنكف عن الطاعة، ويعص الله ورسوله، يعذبه الله عذابا مؤلما في الدنيا والآخرة.
قال ابن عباس: لما نزلت: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ} الآية.
بيعة الرضوان وآثارها الخيّرة:
كان لبيعة الرضوان عام الحديبية أثر كبير في تاريخ المسلمين، وكانت بركة عليهم، حيث ظفروا برضوان الله تعالى، وبشّروا بغنائم كثيرة، يأخذونها، وبهزيمة أعدائهم الكفار، وبحمايتهم من إغارة ثمانين رجلا مسلحين من جبل التنعيم على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى أصحابه.
أخرج مسلم والترمذي عن أنس قال: لما كان يوم الحديبية، هبط على رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم ثمانون رجلا في السلاح من جبل التنعيم (موضع في الحل بين مكة وسرف) يريدون غرّة (غفلة) رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم، فأخذوا، فأعتقهم أي الرسول، فأنزل الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} الآية.
وجاء النص على هذه الوعود والبشائر في الآيات الآتية:

1 | 2